الخميس، 18 يونيو 2009

أنثى الكهف العارية: التعذيب

نيغاتيف – الجزء الثاني –أنثى الكهف العارية: التعذيب

يونيو 16, 2008 by The Editor

null

ربما كانت جملة إلهام سيف النصر، القابعة في نهاية كتابه “سجن أبو زعبل”(11)، حقيقية بشكل ما، وربما ابتعد عن الصواب من لم يجعلها ديدنه! فهو يرى أن كافة أشكال التعذيب وأهدافها، كذلك نفسيات السجانين وشخصياتهم، تكون دائماً متشابهة من معسكرات النازي إلى معسكرات اليابان إلى معسكرات “بابا دوبولوس” في اليونان!. إذاً الأمر ينسحب إلى هنا أيضاً، إلى فرع الأمن1، منذ بداية الاعتقالات في النصف الثاني من السبعينيات وحتى يومنا هذا. المشهد ذاته يتكرر مراراً، كما يقول إلهام سيف النصر، لكن بتغيّرات طفيفة:

غرفة رمادية يتوسد بلاطها معتقل ملطّخ بالدماء. غرفة تسبح فيها الدماء على الأرض، بركة مختلطة بالصديد والماء يسكب مراراً على شاب غيّبه التعذيب عن الوعي. معتقلون مرميون في الكوريدورات وما تزال جروحهم تنزف، يتنقل السجانون والمحققون والجلادون على أرجلهم وأيديهم وأجزائهم المنهكة.

الكراسي الألمانية(12) هنا وهناك وفي كل مكان..

الطميشات الكتيمة بألوانها القاتمة معلّقة على الجدران.

رائحة دم متخثر، أنّات مكبوتة، صراخ، وصياح المحققين.

هذا هو فرع الأمن1 باختصار.

الكثيرون يرون التعذيب مجرد وسيلة للحطّ من النوع الإنساني، أي تحويل الإنسان إلى مجرد كائن مقهور بلا أي اعتبار ذاتي أو كرامة، بالتالي تصبح غريزة البقاء، ليس إلا، المحرك الأساسي لوجوده.

في يوم من أيام 1987عُرّيت إحدى المعتقلات الشيوعيات بثيابها الداخلية فيما كانت تُضرب بالكرباج أمام الملازم، وتُضرب بعيون الجلادين التي تلتهمها شبقة متشهية لعريها. وقت انتهى التعذيب رميت الصبية في غرفة السجان، وليس في الزنزانة كما هي العادة، كانت الذريعة عدم وجود أماكن في الزنازين، ولربما كانت ذريعة مقبولة وسط هيجان الاعتقالات ذاك الزمن.

أحسّت وسط ظلمة الليل بحركة السجان في الغرفة. كان المبنى خالياً من العناصر كما بدا لها. حفيف حركته يقترب منها. ثم أمسك بيدها، وهو يومئ لها بالسكوت، قبل أن يحاول جسده الإطباق عليها.

على الرغم من أنها لم تكن تقوى على إصدار نأمة، فجسدها منهدّ تحت وقع الألم والتعب، حاولت الصبية الهرب منه في أرجاء الغرفة الضيقة جارّة جسدها كخرقة. وحين حشرها بين جسده والجدار ما كان منها إلا أن بدأت بالصراخ. صرخت وصرخت. حتى التأمت مجموعة من السجانة المناوبين في الغرفة وأبعدوه عنها.

لكن تلك المعتقلة قررت ألا تصمت. في اليوم التالي اشتكت للملازم الآخر. ومساء، وقت طُلبت من جديد إلى التحقيق، عمل الملازم الأول على تعريتها كما الأمس قائلاً وعيناه تتوعدان:

ـ حتى لا تعيديها وتشتكي مرة أخرى.

الشيء اللافت، الذي لا يحدث إلا في تلك الأقبية، أن المعذبين كانوا ضباطاً في معظم الأوقات، ضباطاً وليسوا جلادين! أما أساليب التعذيب فقد كانت كثيرة ومبتكرة:

وُضعت الأوراق بين أصابع سحر.ب(13)، أشعلوها مستمتعين بصراخها وبرائحة جلدها المحروق.

بقية البنات، في دفعة اعتقالات 1987، عُذِّبن بالكهرباء وبالدولاب. حميدة.ت(14) مثلاً وُضعت في الدولاب دون أن يلبسوها البنطلون على الرغم من صراخها طويلاً. في نهاية التعذيب تركت حميدة مرمية، وهي ما تزال مضغوطة بالدولاب، فيما السجان يقهقه شامتاً: لقد رأيت كيلوتك.. لونه أبيض.

ثمة طريقة مبتكرة عذّبت بها حميدة أيضاً ومعها غرناطة.ج(15) تتلخّص في وضع الرأس في أداة الفلق، عوضاً عن وضع القدمين فيها، يرفع السجانون الأداة والمعتقلة فيها مما يؤدي إلى انضغاط رقبتها بين حبلي الفلق حتى توشك أن تختنق. يحتقن وجهها حتى يزرق، وتبدأ الحشرجات بالتصاعد. حينها فحسب يرمونها أرضاً وهي في أنفاسها الأخيرة.

ربما كانت ماهية التعذيب تتلخص في إعادة السجين/ السجينة إلى مركباتهما الأولية، مركبات الإنسان البدئية والفطرية، ليحوله/ يحولها إلى رجل/ امرأة كهف عاريين إلا من ورقه الشجر، إن وجدت. عاريين في مواجهة قوى الطبيعة الغاشمة والمبهمة تماماً على تفسيراتهما البدائية والقاصرة.

تتبدى الصورة كما يلي: معتقل/ معتقلة أعزل تماماً إلا من ذاكرة أضحت وبالاً عليه، ذاكرة هي المبرر الوحيد لكل هذا الجحيم الملقى فيه. معتقل/ معتقلة أعزل في وجه التعذيب والقهر والخوف الطبيعي والغريزي من الموت.. إذاً عمل التعذيب هنا على الغريزة.. غريزة البقاء فحسب. ربما كان ذاك الضابط الوسيم يعبث بتلك الغريزة أيضاً وقت غادر مكتبه، بعيونه الخضراء وقامته السامقة، ليضرب فتاة ملقاة على أرض غرفته بالكرباج. ضربها وضربها حتى بدأ باللهاث والتصبب عرقاً، حينئذ رمى الكرباج من يده، تركها تئن بآخر طاقتها على الأنين ليعود إلى مكتبه هادئاً كأن شيئاً لم يكن. على مكتبه كانت تصطف: علبة تقليم الأظافر، كأس الويسكي والثلج بدأ بالذوبان فيه، وزجاجة العطر. يرتشف رشفة من الكأس، يمضمض بها وهو يبتسم ساخراً رامقاً الفتاة بغواية، ثم يزدرد الطعم اللاذع والممتع، يبخّ من زجاجة العطر ويتنسم رائحتها تزكم أنف الصبية المرمية أرضاً على الرغم من أن رائحة الدم والقيح تفغم الفراغ المحيط. أخيراً يخرج الضابط بهدوء سيجارة من باكيت المارلبورو، يدفعها من بعيد، من خلف مكتبه، مومئاً للصبية التي راحت تراه غائماً من خلف حجب تنسدل على عينيها شيئاً فشيئاً..

تشربين سيجارة؟!

بالنسبة إلى سناء.ح(16) كان الدولاب أول شيء ينتظرها في فرع الأمن1 قبل التحقيق، وقبل أن تُسأل أي سؤال! ربما لأنها من أوائل المعتقلات في حملة الاعتقالات الواسعة في 1987، حملة عملت ذات صباح على اعتقالها في أحد أحياء العاصمة ونقلها مسحوبة من شعرها إلى سيارات الأمن ومن ثم إلى مقر الفرع.

كان ثمة أمر حدث قبلاً ربما استفزهم، لم ينسوه البتة وأرادوا الانتقام. كانت سناء قد استطاعت الهرب من عناصر الأمن قبل سنة، أي في حملة اعتقالات 1986 (حملة اعتقالات اللجان الشعبية)، حين دوهم بيت جميل.ح(17) وألقي القبض على مجموعة من الشباب المجتمعين فيه، فيما هربت سناء مدعية أنها ابنة للجيران.

الاستقبال الأول: أمسكني الضابط من شعري، وطفق يضرب رأسي بالجدران بهيستيرية. كنت أتطوح بين يديه كدمية قماشية، الجدران الصلدة تتلقى هشاشة رأسي قاسية كما هي دوماً. أحسّ بأن دماغي سيتطاير إثر كل ضربة. قبل أن يضيّع رأسي على الضابط متعة التعذيب ألقاني أرضاً، ليجعل الساعات المبهمة القادمة تنقضي وصدمات الكهرباء المتتالية على يدي ورجلي تجعلني أحسّ جسدي بكليته يرتفع ثم يخبط على الأرض فجأة، وروحي تصعد معه وتهبط آنة على قساوة البلاط. نهاية اقترب مدير السجن، الذي أشرف على تعذيبي بنفسه، وراح يتمشى بتشفٍّ على ساقي المشلولتين تماماً. رحت أصرخ بما تبقى لي من قوة على الصراخ وهو يفرك حذاءه على ركبتي كأنه يمعس صرصوراً، أو كأنه يحاول هرس العظام القابعة تحت الجلد.

كنت أحس بأن العظام تنهرس حقاً.

ـ شرموطة.. حقيرة..

صاح في أذني. لكني لم أستطع السكوت حينها وهو يرمي بسيل الشتائم، وحين رحت أردّ عليها بشتائم مماثلة أقحم حذائه في فمي وهو يعاود شتمي بالأقذع، ويعاود التعذيب بشكل أشد.

مرت شهور طويلة ولم ينته تعذيب سناء.

كلما أتت دفعة من المعتقلين أو المعتقلات الجدد يعاودون التحقيق معها، استجوابها من جديد، ومن ثم تعذيبها..

تعذيب.. تعذيب..

الأيام المتطاولة تلك جعلت طبيب الفرع يضطر إلى إعطائها علبة مهدئ كي تستطيع النوم، وعلبة ليبراكس كي تكفّ معدتها، الملتهبة بشدة، عن إقياء وتشنج أضحى لا يحتمل. في اليوم الرابع للاعتقال استيقظت سناء.ح صباحاً، كان جسدها منهكاً منهكاً حدّ التلاشي. الزنزانة خالية إلا من رائحة عفونة، أصوات السجانة الصباحية، بطانية عسكرية، وعلبة بلاستيكية مدورة كانت فيما مضى علبة للحلاوة. جاء موعد إخراجها إلى التواليتات. لم تدرِ سناء لمَ قامت بملء علبة الحلاوة حتى حافتها بالماء! عادت إلى الزنزانة بأناة وهي تحاول ألا تسكب أية قطرة منها على أرض الكوريدور. إلى المنفردة قفلت وهي تفكر أنها ستساق الآن إلى التعذيب كما كل الأيام السابقة. التعذيب صباحاً ومساءً.. يريدونني أن أسلّم أكرم. ب(18).. من أين أعرف أين هو أكرم؟!!!

همست سناء إلى نفسها. أحست بأنها متعبة للغاية، بأنها لا تمتلك أية طاقة على التحمل وهي في بئر عميق عميق وداكن على شكل منفردة، وبأن لا نهاية لكل ذلك.. لا نهاية.

فقدت الرغبة في مراقبة الانعكاسات على بقعة الماء التي دأبت على سكبها وراء باب منفردتها رقم 10. تلك البقعة كانت كمرآة تعكس صورة القادم من الكوريدور المواجه وذلك عبر الفراغ المتشكل أسفل الباب المرتفع عن الأرض. سناء كانت أول من يلمح أي قادم جديد أو نزيل للمنفردات من مرآتها المائية العاكسة، لتهمس إلى المنفردات المجاورة بالحدث الطارئ. لكن سطوة علبة المهدئ وعلبة الليبراكس، الموضوعتين إلى جانب البطانية، كانت هي السيدة لحظتئذ. سطوة تناديها للانصياع. أصوات التعذيب تتناهى إليها من غرف التحقيق في الطابق العلوي. كمسيّرة، قيّض لها ذلك، أفرغت سناء حبوب الدواء كلها في فمها، شربت بعدها كل الماء الموجود في علبة الحلاوة.

بداية أحسست بالخدر يتسلل إلى جسدي.

كان باب المنفردة يفتح، شبح السجان يقف بالباب ويريد أن يأخذني إلى التحقيق. الصورة راحت تغيم أمامي:

ـ يريدونك فوق.

همس السجان. ربما أحسّ بسحنتي الغريبة وعيني الغائمتين. لم أستطع القيام، أجبته واهنة وبصوت مبحوح:

ـ شربت كل الحبوب.. الآن سأرتاح.

كنت أشعر بأني سأرتاح حقاً. انقطعت أنفاس السجان قبل أن يسابق نَفْسَه مهرولاً إلى الأعلى. كان يصيح بأن سناء انتحرت، أسمع صدى صوته يتناهى إليّ وهو يتردد في الأقبية. لم تمر دقائق حتى كان مدير السجن بباب المنفردة، لمحته كشبح قبل أن أغيب عن الوعي تماماً.

حين استيقظت سناء.ح كانت ممدّة على سرير مستشفى! وثمة دكتور قبالتها يصيح بألم مغطياً عينيه بيديه:

ـ هؤلاء يهود.. ما الذي فعلوه بجسدك؟! مجرمين سفاحين.

الكدمات الزرقاء القاتمة منتشرة على جسد سناء، تملؤه كله، ذراعاها وساقاها متفسخة، الجروح عليها متقيحة، ووجهها متورم حتى لا تكاد عيناها تظهران فيه.

في ذلك اليوم، بعد غسل معدتها، أعيدت سناء مساءً إلى المنفردة.. ولم يقم أحد بتعذيبها! في صباح اليوم الثاني أخذوني مطمّشة إلى غرفة التحقيق. وصلوا أشرطة الكهرباء إلى معظم مناطق جسدي: إلى معصميّ وذراعيّ، إلى رسغيّ وذراعيّ، ثم إلى بطني ليبدأ التعذيب. لدهشتي، بعد أقل من خمس دقائق، سمعت صوت وشوشات وهمسات في الغرفة ثم فجأة توقف التعذيب، وخرج الجميع. على الرغم من الطميشة، تغطي عيني بالكامل، إلا أني أحسست بعدم وجود أحد حولي. كان الصمت قد خيّم على المكان!

ـ ما في حدا هون؟!!

صحت. لكن أحداً لم يجب! زحفت إلى الحائط، حاولت أن أنزع الطمّيشة بحفّها به، خُدش سطحه الخشن خدي ووجنتي، لكني أخيراً نجحت في نزعها. كانت الغرفة فارغة تماماً! من الخارج استطعت أن أسمع ضجة عناصر الأمن وهم يمورون في الكوريدور، وتعرّفت على صوت أكرم. ب.

إذاً لقد ألقوا القبض عليه.

بعد أكثر من ربع ساعة، وأنا منسية في الغرفة، رحت أضرب على الحائط بكلتا يدي، أصيح، أزعق، حتى أتى عنصر وأنزلني إلى المنفردة بدون الطمّيشة للمرة الأولى. لأول مرة أرى الممرات، الكوريدورات، ومتاهات الفرع وأنا أعود إلى منفردتي.

أحس بالأمر ككابوس.

لم أعرف كيف أتى أول الليل وعادوا لاستدعائي مجدداً. مدير السجن ومجموعة من الضباط مجتمعين في غرفة. من تحت الطميشة استطعت أن ألمح وجيه.غ (زوربا)(19) ملقى على وجهه يئن، جسده مثخن بالجروح المفتوحة، الدماء تغطيه، وتنسكب منه إلى الأرض في بقعة كبيرة تنتشر حوله.

كان يبدو في النزع الأخير.. لن أنسى هيئة زوربا ما حييت. ذاك الألم يسكن أناته لن يغيب أبداً عن ذاكرتي.. لن يغيب.

المنفردات المقابلة والمجاورة لمنفردة سناء غصّت أيضاً بالكثير من المعتقلات السياسيات. إحداها كانت منفردة رقم 9، حيث كانت لينا. و وأنطوانيت. ل(20) محشورتين في منفردة تضيق بمعتقلة واحدة. لطالما تهامستا في نهاية الليل مع المنفردة المقابلة رقم 10، منفردة سناء.

ـ أتعرفين.. عالم المنفردات هو عالم الأقدام والشحاحيط.

همست لينا لرفيقتها وهي جاثية كالعادة على ركبتيها، تسترق النظر من تحت باب المنفردة الحديدي. الوقت يمرّ، ولينا تقضيه منبطحة تراقب، من خلال السنتيمترات القليلة الفاصلة بين الباب والأرض، أقدام المارة في كوريدور الفرع، أقدام السجانة والمعتقلين علّها تلتقط هوية أحدهم. المنفردة تلك ضمّت لينا وأنطوانيت لأكثر من 33 يوماً، نامتا فيها (عقب ورأس)، كل منهما تحتضن أقدام الأخرى. على الرغم من ذلك كان الوضع في المنفردة أكثر رأفة من وجود لينا قبلاً، ولمدة 12 يوماً، في غرفة في الطابق الأرضي، طابق التعذيب والتحقيق. هناك كانت تشعر أنها في مسلخ حقيقي: أصوات التعذيب من حولها ترتفع ليل نهار، الصراخ والأنين ورائحة صديد تحاصر روحها وهي تقضي الوقت مستيقظة تحاول، كمازوخية، معرفة الشباب والبنات من أصواتهم، فيما تتوالى جلسات التعذيب على الدولاب والكهرباء والكرسي و… تتوالى وتتوالى.

في ليلة من تلك الليالي سمعت لينا أحد السجانة، أثناء نوبة حراسته الليلة، يغني بلسان أحد المسجونين أغنية سميح شقير:

هي يا سجانة!! هي يا عتم الزنزانة

كان صوته يتهدج وهو يئن:

لو ما أمي تركتا بعيد..

ولو ما اشتقت لضيعتنا..

ثم صمت. لأول مرة تحسّ لينا بأن للسجان مشاعر تختنق بروائح الفرع، أذنين تتهالكان من أنات الألم وصراخ التعذيب، وأن له أحبة يحتاج إلى قلبه ليحبهم. لأول مرة تكتشف لينا أن للسجان قلباً.

ذات يوم، في وقت ما بين وجبة الصباح والظهر، دفع أحد العناصر الباب بغتة بحركة منتصرة. كانوا ثلاثة، عيونهم تنضح بشزرات الشماتة ونظرات الفرح.

اعتقلوا أحد رفاقنا.

فكرتُ.

ربما خطرت الفكرة ذاتها لرفيقتي أنطوانيت. لكنهم لم ينبسوا بحرف، أخذوني فحسب معهم، طمّشوني، شدّوني إلى فوق، وراحوا يجرجرونني على السلم باتجاه غرف التحقيق.

كان جسدي يرتطم بكل درجة من الدرجات الحجرية التي بدت لي أنها لن تنتهي.

هناك، في غرفة التحقيق الكبيرة، نزعوا الطميشة عن عيني.

كان أكثر من خمسة عشر ضابطاً متحلقين حول رجل جاث على ركبتيه في الوسط. رحت اقترب من الحلقة ودفشاتهم في ظهري تقرّبني أكثر.

الأجساد تبتعد عن الوسط، وأنا أتبين الصورة أوضح فأوضح:

الرجل مدمّى..

يداه مربوطتان إلى الوراء

يتضح الإنهاك الشديد من التعذيب عليه..

أضحيت، وبدفشة واحدة في ظهري، وجهاً لوجه معه..

كان عدنان. م(21).. زوجي.

لم أجد نفسي إلا وأنا منهارة على ركبتي أمامه، زحفت لأضمّه، لأضمّ رجلاً مدمىً من المفترض أن يكون زوجي، لكن العناصر شدوّني بعيداً فيما كان عدنان يصيح:

- لا تخافي لينا.. ما بيخوفو.. لا تخافي.

لبطوه على عينه.

صرت أسمع صوت صراخه وركلاتهم على جسده وهم يشدونني خارجاً على الرغم من صراخي الذي صمّ مبنى الفرع برمته.

في المنفردة كان وضع لينا شبيهاً بوصف كولن ولسن لأسلوب النازية الألمانية، فرض نظام أسموه: لم يعد إنساناً.

لا يجد الإنسان نفسه، بالتعذيب والقهر المتواصل، إلا وهو يتراجع عن إنسانيته حتى حيوانيته.

كان على عدنان في الأعلى، ولينا في الأسفل، أن يتّبعا ما سبق وأسميته غريزة البقاء، أي أن يفكرا بالبقاء فحسب. دون أية تبعات إنسانية جانبية وثانوية في ذلك الوقت.

كان عليهما أن يجاهدا للعيش.

تركوها طيلة الليل لتسمع أصوات تعذيبه التي تصلها بوضوح شديد، تجلدها، تلذعها، تطبق الخناق على صدرها، وتحاول أن تنتزع نفسها الأخير.

طيلة الليل بقيت لينا متقوقعة على نفسها في الزنزانة بلا حراك.

بعد أيام قليلة نقلت وأنطوانيت إلى المهجع رقم 6 دون أن تعرفا ماذا حلّ بعدنان، ومن ثم نقلتا من جديد إلى المزدوجات(22).

هناك كان ينتظرهما، كما كل المعتقلات، ما لم يتوقعنه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق