الخميس، 18 يونيو 2009

أول المعرفة بالورد

أول المعرفة بالورد

المصدر: سلسلة مقالات " من التــراث "

جريدة القبس الكويتية – يناير 1997

كانت معرفة العرب بالورد الجوري الأحمر، معرفة لاحقة، إذ حدثت بعد دخولهم بلاد الشام، وبلاد الأندلس، حيث الحدائق والبساتين. وحيث انتشرت حياة الرفاه واللهو، وتطورت الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفكرية في عهد الدولة الأموية أولا، ثم في عهد الدولة العباسية، ودولة الأندلس فحدث الإختلاط بين الشعوب، وتمت مبادلة المعارف والحضارات واكتسب العرب وسائل جديدة في طرق الحياة والفكر والحكم والعيش وغيرها. ونعتقد انه نتيجة ذلك، تعرف العرب، من ضمن ما تعرفوا عليه، إلى الورد، كزهرة من الأزاهير التي زينوا بها حدائقهم وقصورهم، واغلب الظن أنهم تعرفوا عليها بواسطة الفرس، الذين دخلوا في الإسلام ولعبوا دورا مهما في الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية للدولة الإسلامية.

والدليل على اعتقادنا هذا، إجماع المؤلفين وجميع المراجع والمؤلفات والكتب، على أن الورد، وجد أولا في بلاد فارس المعروفة اليوم بإيران ، ووجد بشكل خاص في جبال القوقاز الشرقية وفي مناطق كردستان، ففيها أجمل أنواع الورد الذي غرس في البساتين والحدائق منذ ما قبل ألفين وثلاثة آلاف سنة.

نبتة برية

وقبل أن تتعهد يد الإنسان الورد بالتهذيب والتشذيب والتلقيح في البساتين والرياض، وقبل أن تزرعه وتهتم به وترويه وتؤصله، وجد الورد نبتة برية في أرياف المناطق التي ذكرنا فوجد في نواحيها وجبالها بصفة طبيعية، ونبت كغيره من النباتات والأزاهير البرية التي خلقها الله وقدمها للإنسان، واكبر هذه الورود حجما، أكثرها عطرا وأريجا، تلك التي تنبت طبيعيا في الإقليم الغربي من إيران منذ أزمان غابرة، وخاصة في بلدة جور الجبلية، والتي نسب إليها الورد الجوري وهو الورد الأحمر ذو الرائحة العطرة.

وقد يكون هذا من أسباب شهرة إيران والمناطق المجاورة لها بعيد النيروز، الذي يحتفل به في الحادي والعشرين من مارس من كل عام، وهو عيد بداية الربيع، حيث تجري الإحتفالات الشعبية مع موسم تفتح الأزاهير والورود. وكذلك الأمر مع الأكراد الذين يعتبرون النيروز عيدا وطنيا يحتفلون به كل عام على طريقتهم الخاصة وحسب طقوس وأعراف وتقاليد جروا على ممارستها منذ مئات السنين ونقلوها معهم من جبال كردستان الى مناطق إنتشارهم وسكناهم.

رفيقة الإنسان

إذا كان الورد في أوله نبتة طبيعية، فسرعان ما تعرف إليها الناس، وأخذوا في الإهتمام بها، فنقلوها إلى مدنهم وقراهم، واهتموا في العناية بها فزرعوها في حدائقهم الخاصة، فأصبحت رفيقة الإنسان وجليسه، ومصدر جمال له ولما حوله، ومن بلاد فارس تسربت الوردة إلى أرجاء المعمورة، وانتقلت خلال مئات السنين من بلد إلى آخر، فقطعت رحلة طويلة، عبر السهول والوديان.

وعلى الأرجح فإن الوردة انتقلت أولا من إيران إلى أسيا الصغرى أي تركيا اليوم، وهي بلاد اليونان، وعلى خط آخر، انتقلت إلى ما يسميه مؤرخو العرب الأقدمون بلاد الجزيرة ومنها إلى بلاد الشام، وهذا الإنتقال طبيعي، نظرا للموقع الجغرافي لبلاد فارس وامتدادها الجبلي وصولا إلى آسيا الصغرى عبر جبال كردستان التي اشتهرت بورودها، وحيث كانت القوافل تقطع ممرات هذه الجبال وصولا إلى القارة الأوروبية.

وأما بلاد الشام فكتب التاريخ، كلها، تقريبا تؤكد العلاقات المتنوعة التي كانت تربط بلاد فارس بالجزيرة العربية، ليس على صعيد التجارة فقط بل علاقات سياسية، وحتى عسكرية ناهيك عن الغزوات المتبادلة بين سكان الجزيرة العربية والفرس، وسعي الأكاسرة، إلى فرض سيطرتهم على الجزيرة وإقامتهم الأحلاف مع عدد من القبائل العربية، القاطنة على تخوم الجزيرة القريبة من بلاد فارس.

ويروي المؤرخ اليوناني هيرودوت، أن الورد عرف منذ ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد، فيذكر أن البابليين كانوا يزينون رؤوس عصيهم بنحتها على شكل تفاحة أو وردة أو نسر، وهذا دليل على أنهم كانوا يعرفون الورد، ويغرسونه بكثرة في بساتينهم منذ زمن غير يسير.

الغبراء والخلاف

ويؤكد المؤرخ العربي الإسلامي، الراغب الأصبهاني في كتابه: " محاضرات الأدباء ومناظر الشعراء والبلغاء" معرفة أهل بابل للورد، إذ يروي أن ملك بابل، أهدى إلى ملك أضول، وردة، فأنكر الأمير ما رأى من شوكها، وكافأه بنبتة الغبيراء، التي تولد داء عظيما عند شمها "الغبيراء هي شجرة تولد من زهرها سموما إذا شمت" فلما أينعت أصول الورد عنده، سر به، فندم على ما كان منه، فأهدى إلى ملك بابل شجرة الخلاف، التي يقال عنها، أنها شجرة تولد دواء مضادا لما تولده شجرة الغبيراء وقد يتساءل البعض، إذا كان البابليون قد تعرفوا على الورد، وهذا ما تؤكده الروايات وتذكره، فهل من المعقول أن لا يزرع في حدائق بابل المعلقة؟

تروي الحكايات، أن الورد قد غرس في الجنائن المعلقة، التي أسس في بابل القديمة، على يد الملكة سميرا ميس، سنة ألف ومائتي سنة قبل المسيح، وفي ذلك الزمن كان الورد معروفا في بلاد فارس والمعروف أن سميرا ميس كانت ملكة لآشور وبابل واتسع ملكها إلى بلاد فارس ومصر واليونان، فلا عجب إذا قيل أن الورد قد زرع في حدائق بابل، بل عن البعض يؤكد أن الملكة البابلبة، جلبت أفنان الورد من بلاد الفرس وزرعتها في عاصمتها، وزينت حدائقها بها وأحاطتها بالكثير من النباتات والأشجار التي زرعت حينذاك، وقد يتبادر إلى الذهن أيضا، سؤال آخر، أن العالم القديم عرف حضارات عريقة استمرت أجيالا، وما زالت بقاياها وآثارها قائمة إلى اليوم، وما زالت معالمها مقصد السياح والعلماء للتعرف على خصائصها، كالحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية، فهل من المعقول أن هذه الحضارات، لم تعرف الورد، ولم يزرع في الحدائق والبساتين التي كانت منتزها في أرجاء هذه الأمبرطوريات وهي التي تمكنت من التوسع.

الورد في مصر

إن البحث في هذه الحضارات، السابقة لحضارة بابل، وبالذات الحضارة المصرية، لم يثبت، بل لم يلحظ وجود أي نوع من الورد في الصور الفوتوغرافية المنحوتة على جدران الهرم، وعلى المعابد والمقابر، ولا ذكر في مصر للوردة إلا في عهد البطالسة، أي بعد ملك الإسكندر الكبير. ويؤكد عالم الآثار الفرنسي بواستر، الذي اهتم كثيرا بدراسة الآثار الفرعونية، أن اسم الوردة منصوص عليه في الكتابات القبطية القديمة. وهذا الكلام يؤكد ما رمينا إليه، وهو أن زراعة الورد في مصر، انتشرت بعد الفتح الفارسي لبلاد الفراعنة، ثم تأكد وجوده في عهد البطالسة، وهم آخر دولة لمصر الفرعونية، إذ انتشر الورد انتشارا واسعا، لدرجة أنه صار يصدر فيما بعد إلى أباطرة روما. ما يعني أن المصريين في ذلك العصر، كانوا يزرعون كميات كبيرة من الورد، الأمر الذي مكنهم من تصديره.

وتذكر الروايات، والكتب تأكيدا لذلك، أنه عندما توجهت كليوباترا لمقابلة أنطونيو أقامت على شرفه ولائم فاخرة عديدة، استمرت أياما عديدة، وبالغت كليوبترا في التكريم مبالغة مدهشة، حتى أنها جمعت آلاف الورود لهذه المناسبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق