الخميس، 18 يونيو 2009

*.. الدم السوري على مذبح اعمدة المشانق تدمر (2)

*.. الدم السوري على مذبح اعمدة المشانق تدمر (2)

بقلم: حسن الهويدي *

أخبار الشرق – 15 نيسان/ أبريل 2009

(بداية لابد لي ان اتقدم بالشكر الى جماعة الاخوان المسلمين في سوريا، على الدعم المعنوي والمادي الذي قدموه لي، بينما كانت ظروف المهجر القاسية تعصف بي، كما اتقدم بالشكر لكل من قدم لي مساعدة على الصعيد الشخصي، فقد عشت مع جماعة الاخوان المسلمين في سوريا مأساتهم الانسانية في بلدان الاغتراب والمهجر، وعشت معهم في سجن تدمر وكلي أمل الا ينسى القادة عذابات سجناء سجن تدمر والشهداء الذي رفرفوا على اعمدة المشانق فيه.. حسن الهويدي).

تفيذ الاعدام شنقا.. مشهد 1

نظرت من ثقب الباب وشاهدت منصات خشبية ومعدنية في الطرف الاخر من الباحة تتدلى منها حبال، في الطرف المقابل يجلس ابو عزيز وعدد من السجناء، ذهبت الى دورات المياه حيث يوجد شباك صغير يطل مباشرة الى الباحة وتكون الرؤية من خلاله اوضح، وضعت تحت قدمي كي اصل الى النافذة التي كانت مرتفعة بعض الشيء كالون من البلاستيك نستخدمه لتخزين المياه، صعدت واحسست بعدم التوازن في جسدي وقدمي تتراقص والخوف ان ينسكب الماء الذي لا نملك غيره.. 20 ليتراً من الماء اذا فقدناه يصبح 175 سجيناً دون ماء طوال 24 ساعة، ولكن سعيت جاهدا ان احافظ على توازني، سوف اشاهد ما لم اشاهده من قبل، يا رب هل يتم اعدام هؤلاء الان؟ بهذه السهولة يتم ازهاق ارواح البشر وامام عيني وانا عاجز عن فعل اي شيء غير تحسس رقبتي؟ وهل سأبقى استرق النظر اليهم حتى اودعهم؟ ام ان فضولي يدفعني الى فعل هذا كوني لم ار في حياتي هكذا مشهد سواء على شاشة السينما وعرض افلام الكابوي؟ انها مخاطرة كبرى لو شاهدني احد الحراس وأنا استرق النظر ولو كشف امري قد اكون من بينهم.

بينما كانوا يستقدمون سجناء من الباحات الاخرى شاهدت من بينهم شابين لبنانيين هما الابجر وابو قتادة متهمين بمقاومة الجيش السوري في مدينة طرابلس شمال لبنان. تعرفت عليهما رغم انهم معصوبو الاعين، فقلبي يكاد ان يتوقف. واستندت بظهري على طرف الحائط، نظرت الى المهحع اشاهد السجناء الذين لم ار منهم احدا كأن سرابا حجبهم عني.. الدوار في راسي يكبر الالم في اذني وطنين لم يعد يحتمل. استلقيت على ظهري لدقائق وعدت جالسا، ونظرت الى بقية السجناء، شاهدت منظرا محزنا للغاية.. دموع الجميع تذرف ورجال اشداء تبكي، لا اعتقد انهم يبكون خوفا بل كانوا يبكون على فراق احبة عاشوا معا سنين طويلة تقاسموا فيها الالم والفرح والجوع والعطش، تقاسمو الشوق والاحلام رغم مراراتها، تقاسمو ضربات الجلاد...

وقف رئيس المهحع في وسطه وطلب منا تلاوة صورة يس والدعاء كي يخفف الله عنهم وعنا الم الحبال ويسهل عليهم الموت ويدخلهم فسيح جنانه. وبينما كانت الدموع تتساقط من الجميع على فراق الاخوة والاحبة، دفعني جنون ما وعدت الى الحمام حيث كنت نظر الى جهات المحيطة لساحة الاعدام.

في الحائط الجنوبي للباحة والتي تفصله عن باحة الخدمة يوجد باب اسود صغير يقف الى جانبه عناصر من الشرطة العسكرية ترافقهم عناصر البلدية، وفي وسط الباحة انتشار لبقية عناصر الشرطة والبلدية. وشاهدت بعض العناصر المسلحة تعلو اسطح المهاجع المجاورة، مصوبين فواهات بنادقهم باتجاه السجناء العزل المقيدي الارجل والايدي المنبطحين ارضا معصوبي الاعين. لحظات وفتح الباب الصغير من جهة باحة الخدمة ودخل منه مجموعة، فأدى عناصر الشرطة المجاورين للمكان التحية بقوة، استجمعت كل حواسي كي يتسنى لي معرفة من دخل عرفت من بينهم (العميد غازي الجهني مدير السجن) والمساعد محمد نعمة ضابط امن السجن، ام البقية فكانو يرتدون اللباس الرسمي المدني اجل عرفتهم، اللواء حسن قعقاع والعميد سليمان الخطيب رئيسي المحكمة الميدانية في سجن تدمر، كان الخطيب قصير القامة هذا الاخير الذي اعدم الكثير من السجناء، ومن كان يقع تحت يده يقوم بتعذبيه حتى اثناء المحاكمة.. الخطيب الذي روى لي احد السجناء عنه انه اعدم سجيناً كان طبيباً بيطرياً بحجة ان الطبيب قتل بقرة اهله. قال لي ان الطبيب كان موظفا لدى مصلحة الزراعة في المنطقة التي يوجد فيها اهل واقارب القاضي العميد سيلمان الخطيب، بعد ان اطلع القاضي على المعلومات المتواجدة في ملف السجين تعرف اليه القاضي وسأله انت الطبيب الجحش اللي كان يخدم عنا بالضيعة؟

قال له السجين: نعم

القاضي الخطيب: انت اللي قتل بقرتنا مش هيك؟

السجين: اي بقرة سيدي؟

البقرة اللي كنت تعالجها وماتت لانك حمار ما تفهم، بحظي متل ما ماتت البقرة راح تموت انت، اخرج يا كلب انت محكوم اعدام، تعرف يا ابن الشل(..) البقرة بتسوى لحية وشوارب ابوك وابو اللي خلفوك، لك البقرة تسوى (..).

وفعلا بعد خمسة عشر يوماً، نفذ العميد سليمان الخطيب حكم الاعدام بحق السجين.

وكان معه في الباحة اللواء حسن قعقاع رئيس المحكة الميدانية، وكان يرتدي بدلة بيضاء اللون موديل سفاري والى جانبه مقدم في المخابرات العسكرية فرع التحيقيق رئيس قسم التحيقيق واشخاص اخرون.

المقدم هو الذي قد اشرف على التحقيق معي اثناء فترة وجودي في فرع التحقيق العسكري، انه يتمتع بلذة لا متناهية اثناء التعذيب، كان يحتسي الخمر اثناء التحقيق مع السجناء، كما كان يشرف على تعذيب النساء المتهمات بالانضمام لرابطة العمل الشيوعي في الغرفة رقم 15، حيث كان يرتدي بيحاما زرقاء اللون وحذاء رياضي، ويضع له العناصر كرسياً من الجلد الفاخر اسود اللون، وطاولة صغيرة يوجد عليها زجاجة من الويسكي الفاخر المهرب من لبنان وعلبة سيجار كوبي فاخر وبعض الفاكهة، لا يروق له التحقيق مع النساء السجينات الا في هذه الوضعية. بعد ان يحتسي القدح الاول يأمر العناصر بجلب السجينة وفعلا.. فتح احد العناصر باب الغرفة المجاورة رقم 15 واخرج منها سجينة لم يتسن لي معرفتها، مرت ربع ساعة وبدأ بالتحقيق معها.. ويترافق الكلام مع ضربات قوية بكبل رباعي مصنوع من النحاس والبلاستيك يستخدم لنقل التيار الكهربائي بالتوتر العالي. وهذا النوع من الكابلات يستخدم للقطعات العكسرية لدى الجيش السوري، وهو من ادوات التعذيب المتعارف عليها في معتقلات وسجون المخابرات السورية، وقد استخدم هذا الكبل كاداة من ادوات التعذيب المتعددة اثناء التحقيق معي.. كنت احس بالألم الذي يرافقه، لذلك كلما تعرضت السجينة التي يحقق معها بضربة كنت احس بالوجع والألم والدمع يتساقط من عيني دون ان اشعر بها رغم انها تحرق جفن عيني.. صرخات امرأة تتعالى وتستنجد وهي تصرخ يا امي يا بيي. ومن خلال الصراخ شعرت بأنها قد تكون المرأة التي تعرفت عليها من خلال انبوب الماء الواصل بين زنزانتنا الجماعية رقم 14 التي اقيم فيها وزنزانتها رقم 15، قد تكون (فيروز) التي كانت في احدى المرات بعد ان تعرفت علينا بشكل جيد، غنت لنا اغنية ريتا لمارسيل خليفة واغنية للمطربة فيروز يا (جبل البعيد خلفك حابينا بتموج متل العيد وهمك متعبنا) واطلقنا انا ومن معي في الغرفة اسم فيروز لأن كان صوتها جميلاً ودافئاً يشبه صوت فيروز. كانت كلما تريد ان تكلمنا تدق على انبوب الماء ونتحدث من خلال فتحة صغيرة ونتبادل الرسائل.

وبينما تعلو صرخاتها صعدت الى صنبور الماء الذي يقع بحوار انابيب اخرى بعرض 30سم كنا نستخدمها للنوم نتيجة ضيق المكان، وفعلا طرقت على الانبوب وجاءت احد البنات السجينات وهي رفيقة لها من ضيعة قريبة من دير ماما منطقة مصياف وسألتها مين فيكن خرجت للتحقيق، واخبرتني انها فيروز. وسرعان ما نزلت الى الباب استمع الى كيفية التحقيق معها وكان كلام المحقق مفهوماً بشكل واضح، وكان قد طلب من العناصر المرافقة له بالتحقيق معها ان ينزعوا عنها ثيابها وهي تتوسل اليه ان لا يفعل هذا، ولكن نزع عنها كل ثيابها وكان المحقق يتكلم بصوت عال وكان كلامه غير مترابط نتيجة انه ثمل من كثرة ما تناول من اقداح الويسكي. طلب من احدهم ان يربطها وهي عارية على سلم بزواية مائلة وبينما هي تصرخ. اعتقد انه طلب هذا لانها كانت تضع يديها كي تستر عورتها بينما هو يسارع بجلدها كي ترفع يدها عن مكانها بينما هي صامدة وتأبى ان ترفع يدها ولكنه لم يفلح بهذا، فطلب من العناصر الذين معه ان يقيدوها على السلم كي يتاح له التمتع بمشاهدة جسدها العاري.

وفعلا تم ربطها وساد الغرفة والنفق المجاور الصمت المخيف المرتقب، ولكن بعد مضي نصف ساعة كانت تخرح منها صرخات متقطعة وبقيت هكذا حتى ساعات الصباح الاولى، وعندما تم الانتهاء من التحقيق معها، حملها اربعة عناصر من المخابرات على متن بطانية ووضعوها امام باب الغرفة 15 الملاصق لباب الغرفة التي اتواجد بها، وكانت ثيابها ملطخة بالدماء وشعرها منثور على وجهها.. انها فيروز.. وعندما ادخلوها الى الغرفة تعالت صيحات رفيقاتها، وبعد ان شاهدن منظرها بدأن يشتمن بأعلى اصواتهن يا مجرمين يا قتلة يا كلاب الله يلعن ابوكم ابو رئيسكم المجرم.

بينما هي تصرخ الما وشوقا دخليكم بدي اشوف بنتي بدي اشوفها قبل ما اموت.. سكتت واعتقدت انها ماتت واحسست ان عشق الوجع الالم قد جمعنا، فلم يعد لدي صبر. عند الظهيرة صعدت الى انبوب الماء وبعتث برسالة كي اطمئن عليها واتحقق من انها ما زالت على قيد الحياة. وفعلا حدثتني احدى البنات المتواجدات معها بنفس الزنزانة وطمنتني عنها، وقالت لي تصور الكلب المقدم معذبها كتير جسدها اصبح لونه ازرق من ضربات الكرباج وايضا وجهها مشوه وظهرها مش باين من الدم المتجمد.. كان ابن الحرام المقدم يطفئ سيجاره على (صدرها) و(فمها) وبين رجليها. وكان يعرضها للصعق الكهربائي.. المسكينة عم تنزف ونحنا خايفين عليها تموت. بعد ان سمعت هذا الكلام لا اعلم كيف نزلت من الانبوب ما ان وجدت نفسي مقرفص في الزواية المجاورة لدوة المياه، سرعان ما تبادر الى ذهني أنه قد يأتوا بشقيقتي او امي الى هنا ويفعلوا معها كما فعلوا مع فيروز. فيروز التي اطفأ المحقق سيجاره على شفاهها لن تغرد اليوم ولا غدا بينما الجبل البعيد القريب ينتظر صوتها ليرد الصدى ويصل الى اذني طفلتها التي تتنظر خلف الجبل المطل على ضيعة لها فيها ذكريات جميلة وشوق لرؤية حبيبة ومحب....

يتبع لاحقا تعذيب النساء في سجون المخابرات السورية..

__________

* كاتب سوري وسجين سياسي سابق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق